مقالات

دكتور ياسرجعفر يكشف حقيقيةُ عبادةِ انتظارِ الفرَجِ

الضَّعْفُ قدَرُ اللهِ في البَشرِ، وسِمَتُهم في الوجودِ، وأشدُّ ما يكونُ ذلك الضَّعْفُ عند انعدامِ الحيلةِ، وجُثُومِ البلاءِ، واستبهامِ وجوهِ الأسبابِ، وانسدادِ أُفُقِ الفرَجِ في الواقعِ المنظورِ، وانقضاضِ جنودِ اليأسِ على مملكةِ القلبِ الضعيفِ المكْلُومِ بالتَّحزينِ والتخريبِ؛ شأنَ طبيعةِ اليأسِ البشريِّ التي أبانَها الخالقُ -سبحانه- بقولِه: ﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ﴾ [الإسراء: 83].

بَيْدَ أنَّ لأهلِ الإيمانِ في ذلك الموقفِ العصيبِ خصيصةَ رحمةٍ ربانيةٍ يتميَّزونَ بها عن الغَيْرِ؛ يَنْظُرُونَ من خلالِها للواقعِ المَريرِ نظرةَ فأْلٍ لا يراه بها إلا مَن عَمَرَ الإيمانُ قلبَه، وتربَّعَ على مَعْقِدِ عرشِه، ونظرَ للواقعِ بمنظارِ اليقينِ؛ وكان مُفْعَمَاً بما يَضُخُّه الإيمانُ من قوةِ عبادةِ انتظارِ الفرَجِ العظيمةِ؛ لِيَخِفَّ بها وطْأةُ البلاءِ، ويُفْتَحَ للأملِ المُشْرِقِ نافذةً كبرى لا يُمكنُ أيُّ بلاءٍ سَدَّها مهما استحكمتْ شِدَّتُه واحْتلكتْ ظلمتُه.

فما حقيقيةُ عبادةِ انتظارِ الفرَجِ؟ وما قدْرُها عندَ اللهِ؟ وما أثرُها في تحسينِ الواقعِ المُرِّ؟

يعد انتظارَ المؤمنِ فرَجَ اللهِ أملٌ في اللهِ كبيرٌ؛ لا تُضيِّقُه ظروفُ شِدَّةٍ، وتَوقُّعٌ جازمٌ بالخيرِ يَجودُ به اللطيفُ الخبيرُ؛ لا يَمنعُ منه انسدادُ الفُرَصِ أو مَنْعُها؛ فهو في كلِّ آناتِه وساعاتِه مُرْتَقِبٌ تفريجَ كربتِه، وتيسيرَ عسرتِه؛ لا يزيدُه مُضِيُّ ساعاتِ البلاءِ وتراكمُها إلا استدناءً للحظةِ الفرجِ، وارتقاباً لحلولِ ساعتِه، وقَصْرَاً للشكايةِ إلى اللهِ؛ فكما أنَّ الأملَ فيه معْقودٌ وحدَه -سبحانه-؛ فكذلك لا تكونُ الشكايةُ إلا إليه.

كما قال يعقوبُ -عليه السلامُ- إثْرَ فُقْدَانِه أبناءَه: ﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 86]، قال قتادةُ: ” ذُكِرَ لنا أنَّ نبيَّ اللهِ يعقوبَ لم ينزلْ به بلاءٌ قَطُّ إلا أَتى حُسْنُ ظنِّه باللهِ ‌مِن ‌ورائِه “. والمؤمنُ وهو في ذلك الانتظارِ يتقلَّبُ في أعطافِ عبادةٍ هيَ من عُظْمَى العباداتِ، كما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ” أفضلُ العبادةِ انتظارُ الفرَجِ ” رواه الترمذيُّ وحسَّنَه ابنُ حَجَرِ.

وما كان لانتظارِ الفرَجِ من اللهِ ساعاتِ رَهَقِ البلاءِ أنْ يَتَبَوَّأَ هذا المقامَ العليَّ في سُلِّمَ العباداتِ إلا لما حَوَاه من حقائقِ التوحيدِ المُتْرَعَةِ؛ ففي انتظارِ الفرجِ قَطْعُ ‌العلائقِ والأسبابِ إلى اللهِ -تعالى-، وتعلُّقُ القلبِ به، وشُخوصُ الأملِ إليه، والتبرِّي من الحَوْلِ والقوةِ؛ وهذا خالِصُ الإيمانِ.

ومن أشرفُ العباداتِ ‌ولُبُّ ‌الطاعاتِ؛ أنْ يتوجَّهَ القلبُ بهمومِه كلِّها إلى مولاه؛ فإذا نزلَ به ضيقٌ انتظرَ فرَجَهُ منه لا من سواه، وأقبلَ على ربِّه في تفريجِ كرْبِه وكشفِ ضرِّه، أو الظَّفَرِ بمطلوبِه، مع صبرِه وعدمِ ضجرِه وعدمِ شكواه للمخلوقِ، وعدمِ اتهامِه للحقَّ فيما ابتلاه وتأخيرِ كشْفِه؛ فتلكمْ -لَعَمْرُ اللهِ- عبادةٌ وأيُّ عبادةٍ؛ لما فيها من الانقيادِ للقضاءِ والتسليمِ لقدْرِ اللهِ. وفي انتظارِ الفرَجِ زيادةُ الخضوعِ للهِ، وإظهارِ الافتقارِ إليه، وانكسارِ القلبِ بين يديه؛ وما أقربَ فرَجُ اللهِ لمن انكسرَ قلبُه بين يديه، ولم يرتضِ جابراً لكَسْرِه سوى الجبَّارِ سبحانه وفي انتظارِ الفرَجِ من اللهِ إفرادٌ له بالربوبيةِ وتدبيرِ الأمورِ، وأنَّ الكونَ بما حواه في قبْضتِه؛ محكومٌ بقدَرِه، ومزمومٌ بأمرِه.

فالله قادر على اخراجك من الظلمانت والهموم؛ فهو الذي أخرجَ يوسفَ من الجُبِّ وأخرجَه من السجنِ، وهو الذي رفعَ عيسى ونجَّاه من القتلِ، وهو الذي نجَّا رسولَه من قومِه إذ يَمْكُرون به لِيُثْبِتُوه أو يَقتلُوه أو يُخرِجوه، وسمَّاه المتوكِّلَ؛ لقناعتِه باليسيرِ من الرزقِ، واعتمادِه على اللهِ -تعالى- في الرزقِ والنصرِ والصَّبْرِ على انتظارِ الفرجِ، والأخذِ بمحاسنِ الأخْلاقِ واليقينِ بتمامِ وعْدِ اللهِ. قال الرِّياشيّ’.

إنَّ انتظارَ الفرجِ من اللهِ نَداوةُ رحمةٍ ربانيّةٍ تُرَطِّبُ جفافَ الواقعِ، سلّى بها اللهُ قلبَ المُعْدَمِ من المالِ إنْ طَلَبَ أقاربُه رِفْدَه بقولِه: ﴿ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ﴾ [الإسراء: 28].

واليأسُ من رَوْحِ اللهِ، وترْكُ انتظارِ فرجِه ضلالٌ لا يكونُ من مؤمنٍ باللهِ، كما قال الخليلُ – عليه السلامُ -: ﴿ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 56]. وحرمانُ التسلِّي بانتظارِ الفرجِ وجثومُ اليأسِ عقوبةٌ يُعذِّبُ اللهُ بها أهلَ النارِ المخلَّدينَ، كما قال -سبحانه-: ﴿ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ [الزخرف: 75[.

ومن إيمان العبد بربه يقينه التام بأن الله جل وعلا من قضى وقدّر الأقدار، وأجّل الآجال، وسبّب الأسباب، وأنّه جل وعلا لم يعط أحداً من عباده خيراً إلا بفضله، ولم يصب أحداً من عباده بسوء إلا بعدله، وأن كل شيء قدّره بحكمته، وأنّه سبحانه لا يريد بعبده إلا خيراً، عن أبي يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” عجباً لأمر المؤمن إن أمره كلّه خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ” رواه مسلم

وإن من إيمان العبد بربه أيضاً؛ ان يعلم أن ما تعرض له من ابتلاء ومصاب – أيّاً كان – هو تكفير له من الذنوب وتطهير له من الخطايا، وذلك والله فرج له من نوعٌ آخر، فكم من عبد غارق في الذنوب والشهوات، وأسير للآثام والسيئات، حتى أصابه ذلك البلاء، وأحاطه شيء من الابتلاء، فصبر وصدق فكان له ذلك البلاء مصفياً له ذنوبه الجمّة وخطاياه الملمّة.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة “.

وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” إن عظم الجزاء من عظم البلاء وإن الله عز وجل إذ احب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط ”

انتظر الفرج أيّها المحزون بقلب آمن ومطمئن، وبلسان ذاكر شاكر، وبجوارح عاملة باذلة وبإقامة للعبادات وللطاعات، وتوبة من المعاصي والمنكرات، وبتذلل لله وخضوع وابتهال إليه وخشوع.

انتظر الفرج؛ لأن انتظارك عباده، وصبرك طاعة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” انتظار الفرج من الله عز وجل عبادة، ومن رضي بالقليل من الرزق رضي الله عنه بالقليل من العمل ” اخرجه الترمذي، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل من فضله وأفضل العبادة انتظار الفرج ” أخرجه الترمذي

بعد فساد الزرع
قال بعض العلماء: رأيت امرأة بالبادية، وقد جاء البَرَدُ فذهب بزرعها، فجاء الناس يعزّونها فرفعت رأسها إلى السماء، وقالت: اللهم أنت المأمول لأَحسنِ الخلف وبيدك التعويض مما تلف، فافعل بنا ما أنت أهله، فإنّ أرزاقنا عليك وآمالنا مصروفة إليك؛ قال: فلم أبرح حتى مرّ رجل من الأَجِلاء، فحدّث بما كان؛ فوهب لها خمسمائة دينار، فأجاب الله دعوتها وفرَّج في الحين كربتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى